شريهان: أنشودة احتفاء بالحياة
عادت شريهان لتغني وترقص بعد انقطاع دام قرابة عقدين، متسببة بردة فعل عاطفية بين المشاهدين على مواقع التواصل. هذا يُبَسمل على خفتها، وتلك تقارنها بالقمر.
لم تخرج الفنانة الاستعراضية المصرية إلى الضوء، بعمل فني متكامل، كما كانت قد وعدت قبل سنوات. ولكنها اكتفت بشريط غنائي قصيرلإعلان رمضاني.
يبدو أنّه كان وافياً بالغرض، إذ فقد كثر على إثر طرحه، “ثباتهم الانفعالي” على تويتر، وشوهد أكثر من عشرين مليون مرة بين يوتيوب وفيسبوك خلال 48 ساعة.
وقد يكون هذا السيل العاطفي الجارف متوقعاً، بالنظر إلى تاريخ الفنانة وقيمتها في الوعي الجمعي، ليس في مصر فقط، بل في دول عربية أخرى. يضاف إلى ذلك انسحابها من الساحة في ذروة شبابها، بفعل ظروف صحية صعبة.خلال دقائق قصيرة من إطلاق الشريط الراقص، انتشرت لقطات منه على كافة المنصات، ليمتزج حنين من شاهدوا فوازيرها في الثمانينيات والتسعينيات على شاشات التلفزيون، بدهشة من يتعرفون عليها بعيون جديدة على شاشات هواتفهم، متسائلين عن سرّ مرونتها بعد الخمسين، و”روتين شعرها” الذي لا يزال طويلاً.
هذه ليست المرة الأولى التي تثير فيها إطلالة شريهان شيئاً من الذهول. فقبل عشر سنوات، التُقطت لها صور في الساحات خلال تظاهرات “25 يناير”، حين انضمّت لحشود المطالبين بالتغيير في مصر.
أعطت مشاركتها دفعاً معنوياً للشباب المتظاهر ضد حسني مبارك حينها، خصوصاً أنها كانت إطلالتها العلنية الأولى بعد انكفاء طويل، بسبب علاجها من ورم سرطاني نادر.
والآن، بعد سنة من الطوارئ الصحية والوبائية في العالم، وبعد فترة عايش خلالها كثر عزلة المرض والوحدة وانعدام الأفق والانهيار الاقتصادي المرافق، تختار أن تطلّ في مشهد راقص يحكي عن العودة للحياة.
تقول: “راجعين أقوى وطايرين، وعلى مين، عالصعب فحياتنا متعودين، الدنيا بقت لعبتنا، ومكملين، مهما الدنيا تحدتنا تتحدى مين، وعلى مين؟”
رسالة بسيطة ولكن ملهمة، من فنانة بقيت بالرغم من غيابها لسنوات، جزءاً من ذكريات المصريين المرتبطة برمضان التسعينيات.
لم يتردّد بعضهم في التعليق على الإعلان الجديد، بالقول إنهم تركوا موائد الإفطار، ووقفوا أمام الشاشات يرقصون مع شريهان، كما كانوا يفعلون في الطفولة.
وكتب كثر دعوات وصلوات لشريهان، ترافقت بكلمات تقدير لقدرتها على تجاوز سنوات من الوحشة والانكسار، واضطرارها للتخلي عن الفوازير والاستعراض، رغم لمعان نجمها.
قبل أيام، شهدت مواقع التواصل لحظة “إلهام” مماثلة، كان مصدرها مصر أيضاً، حين اجتمع كثيرون لمشاهدة موكب نقل المومياوات الملكية من المتحف المصري في ميدان التحرير، إلى المتحف القومي للحضارة المصرية شرقي القاهرة.
يومها، غرد العالم البريطاني، ريتشارد دوكنز، صاحب كتاب “وهم الإله”، رابطاً لخبر عن الموكب الفرعوني، وكتب: “هذا رائع. يكاد يجعلني أشعر بالتديّن”.
كان ذلك تعليقاً غير متوقع من عالم ينظر إليه على أنه “شيخ الملحدين”، ويعرف بمواقفه النقدية الحادة من الظواهر الدينية والإيمانية على اختلافها.
ضخامة الاستعراض، والموكب التاريخي المهيب العابر في شوارع القاهرة على تقاطع الموت والخلود، وما رافقه من موسيقى وأناشيد فرعونية عمرها آلاف السنين، كلها عناصر تضافرت لتخلّف لدى الناس مشاعر جليلة، تشبه العبادات الجماعية.
من وجهة نظر أنثروبولوجية، ترتبط الطقوسيات الدينية منذ القدم، بالرقص والاستعراض. ويرى مؤرخو فنون الرقص والمسرح أنها بدأت كشكل من أشكال العبادة، ولا تزال كذلك حتى اليوم، وإن بطرق مختلفة.
يقطع فنانو الاستعراض شوطاً كبيراً في نسج علاقة روحانية مع الجماهير، ربما لمجرد ارتباط الرقص بطقوس العبادة، في دماغ البشر، وربما لأن في الاستعراض عوامل إبهار أخاذة، تتلاعب بالعقل والمشاعر.
في حالة شريهان، تتسع الهالة العاطفية تلك، لارتباط اسمها بشهر رمضان، حسبما يقول الصحافي والكاتب المصري، محمد خير، لـ”بي بي سي”: “مع إنتاجها الفوازير و”ألف ليلة وليلة”، باتت واحدة من العلامات المميزة في رمضان من الناحية الفنية والناحية العاطفية/ النوستالجية. بدت شيريهان وقتها كوريثة لنيللي التي كان بعضهم يتصور أنه لا يمكن لأحد أن يخلفها”.
السبب الآخر، بحسب محمد خير، هو “حياتها المأساوية، الصدمات التي تعرضت لها في سن صغيرة، بعدما كانت قد انطلقت كشهب في سماء الفن المصري . يضاف إلى ذلك ارتباط تلك المآسي بحكايات عن السلطة والنفوذ يصعب فيها تمييز الحقيقي من الخيالي”.
كلّ ذلك كرّس “وجود شيريهان في المخيال الشعبي، خصوصاً لوجود حكايات شبيهة في عائلتها متعلقة بمصرع شقيقها عازف الغيتار عمر خورشيد (عام 1981). ولكن أيضاً، لتجاوزها تلك المآسي كلّ مرة، ونهوضها مرة أخرى”، بحسب محمد خير
في فيديو شيريهان الجديد، احتفاء بالحياة، تشبث بها، كأنه أنشودة طقسية قديمة للقيامة. تطل على الناس من خلف ظل المرض والموت والقسوة، كما كانت آلهة الحبّ في الأساطير القديمة تطلّ لتعطي المزارعين الخصب لحقولهم الجافة.
صحيح أن حضارة الإنسان المعاصر، انفصلت عن هذا الجانب الأسطوري، إلا أن آثاره باقية في حياتنا اليومية، لأنه يلامس جانباً طرياً في وعي الشعوب الجمعي.
فرسالة الأمل من فنانات مثل شيريهان، تبدو أشبه بالطبطبة والتعويض وبلسمة الضعف الإنساني. ذلك ما نتوقعه من الشفعاء والقديسين، بعكس رسائل رباطة الجأش والصمود “الإلزامي” في خطابات الاستنهاض السياسية.
ما يستحقّ التوقف عنده، في هذه الطقوسية المعاصرة، أن رقص المصلين في الحضارات القديمة احتفاءً بآلهتهم، لم يكن مجرد نوع من العبادة، إذ كانوا يعتقدون أيضاً أنه مسعى يبذلونه لمساعدة الآلهة على النهوض من ديجور الظلمات. الرقص الاحتفالي، ليس فقط صلاة للآلهة، بل قرباناً، ومساهمة من الشعب في عودتها إلى الحياة، من خلال مدها بالطاقة والتشجيع.
أمس، كتبت شريهان رسالة شكر للجمهور الذي تفاعل معها، ورد فيها: “بعيش بكم ملحمة حب عظيمة أكبر بكتير من قوتي وقدرتي ومقدرتي الإنسانية”، وختمت: “حبكم حياة”.
في كلمة مسجلة أمام منتدى الغرفة التجارية الأمريكية:
في كلمة مسجلة أمام منتدى الغرفة التجارية الأمريكية:مدبولي: نلتزم بالعمل بشكل شامل مع جميع …