على المصطبة
كتب – محمد حسني ابراهيم
درب الروبي والسبع دروب وجنينة الصاوي، أماكن لها بصمة كبيرة وحاكمة في دفتر أيامي، إذ طبعت روحي بشيء من تركيبها، وخلطة محكمة من تجانس ترابها وهوائها وأرواح ناسها، أثرت في تكويني وأثّرت فيها، وألهمتني منذ الخطوة الأولى على صفحة هذا العالم، حكايات كانت تتنفس وتتكلم وتأكل الطعام وتمشي في الأسواق، ما أخذني من يدي مسحوبا بالدهشة والاكتشاف الحلو، إلى أرض تحفها الرؤى وتترعرع في طينتها روح خاصة وخالصة لنفسها، رائحة المكان فيها ضفيرة معقودة بروائح الناس، ما كان كافيا جدا لصنع طفولة مختلفة ومغايرة لكل ما قد يعكر نهر النمو ويشوه صفاء الشخصية، أو يحرمها عبق الحياة وسحر تفاصيلها، الحضرة والإنشاد ورائحة البخور في مقام سيدي علي الروبي، تلك الرائحة التي ما زالت تلحّ عليّ، وأنا على يقين تام منها الآن، وأنا أكتب في بحبوحة من الزمان والمكان، وأفض أختام قنينة الذاكرة المغلقة على عطورها، وما زالت هذه الأيام تملأ أنفي وروحي.
الآن أتوسل بالروائح وذاكرتها، علها تسعفني بكل ما مر أمامي وعشته، وبنى في ساحة روحي عالما موازيا، كان الملجأ وقت الضجر، والبراح وقت الضيق، عالما خياليا له جذور واقعية نبتت في مخيلتي التى أسسها الوجدان الشعبي بكل ما يحمله من صخب وفانتازيا.
جنينة الصاوي
كل يوم الصبح أروح لك وأستخبى
تعشقي فيا البراءة
والجراءة
وضحكة صافية
لو تداري كتير دموع.
جنينة الصاوي، تكعيبة العنب
الكبيرة التي كنا نأتيها خفافا خماصا، وتحتل موقع الوجهة الأولى والحجة المقدسة موسم العنب الفيومي، بهجة الواحة الخضراء وخلاصة سحرها، ذي الطعم المميز وذائع الصيت على امتداد المحروسة.
كنا أطفالا نلعب ونلهو، نذهب إلى الجنينة، شهوتنا أمامنا وعينا الحارس خلفنا، نأخذ العنب خلسة ليهب الخفير اليقظ راكضا خلفنا، كنت الضحية دائمة السقوط في الفخ، لأن أصحابي كانوا مدربين ومخلصين لحاجتهم وحسب، يخطفون عناقيد العنب ويهرولون بعيدا، بينما كنت أتسمر تحت التكعيبة، واضعا قفصا من جريد النخيل، لأعلو فوقه وأقترب من العناقيد اللامعة كثريات فضية في سقف قصر أسطوري، كنت ألتقي العناقيد وفق طقوس خاصة، تليق بالمحبين لا اللصوص، أرتقي القفص وأقطف الحبات بشفتي مباشرة، في قبلات عميقة ومتتابعة، كأنني أجرب ذكورتي الغضة في طابور من الحسناوات مكتنزات الشفاه، لا أمسك العنب كي لا أجرح بكارته، أترك بهاءه كاملا للقائه المقدس بذائقتي، ودائما ما كنت مشغولا بلونه وملمسه ولمعانه، أكثر من انشغالي بطعمه الحلو المصفى، وفي غمرة طقوسي لم أكن أنتبه لصرخات الرفاق التحذيرية «الخفير جه» ليأتي الحارس المطعون في كرامته ويقظته وعرض كرمته، ويمسك بي، دائما وفي كل مرة يتكرر الأمر بالآلية نفسها، حتى عرف أبي القصة، وعرف الحارس هويتي، فكان يرحب بي ويسمح لي بالدخول وقتما أشاء.
درب الروبي
ريحة ماورد ف مية القربة
مع ضحكة طالعة تبوس إيديك تشرب.
كنا فى مسجد سيدي علي الروبي، كل يوم جمعة، وكانت الحضرة تشتعل عقب صلاة الجمعة، فنسمع ونردد معهم دون أن نعرف المعاني، بردة البوصيري ما أذكره منها حتى الآن، وبعدها يقيم الشيخ حامد حلقة ذكر يجمع فيها كل الناس، ويمشي بين الصفوف مصفقا، ومرددا «الله.. مدد».
كان كل يوم جمعة صورة مصغرة من ليلة مولد الروبي، الذي يوافق موعده ليلة نصف شعبان، وفيها كانت مناطق العامود والمبيضة والكارة، حواري وشوارع، ترحب بزوار المولد من كل البلاد، من الفيوم وخارجها، يقيمون الخيام والزوايا ويطعمون الطعام ويقدمون القرفة والأرز باللبن والفول النابت لزوار الشيخ ومريديه، حتى يأتي موعد الليلة الكبيرة، يزدحم الناس وتزهر حلقة ذكر كبيرة فى ساحة المسجد، بينما يتوزع باقي الزوار بين الشوارع والأزقة، وحصة منهم يجلسون في حجر المقام، يزورون ويقرؤون الفاتحة ويتباركون، وعند الواحدة صباحا يصفو الجو، فيخرج المنشد على ما تبقى من الجموع الذين أنضجهم الذكر والدعاء وأضاء وجوههم وأرواحهم.
كان المنشد مكفوف البصر، كنت أجلس على مقربة منه، عيناي معلقتان عليه، كأنهما عينا عاشق هائمتان في معشوقه، لا تغادران حرم ضوئه والتماع حضوره، وقتها كنت فى المرحلة الإعدادية، وإلى الآن لا أستطيع تفسير ما كان يحدث له وهو ينشد، ولا ما يحدث لي وأنا في حضرته.
(على شط بحر الهوى قابلتني وأنا تيهان
هي الكريمة أم هاشم وحبيبي ماشي ديدبان
أنا قلت عيان يا ماما وجسمي امتلا أوهام)
كان يبتسم مع كلمة الهوى، ويتيه وينتشي مع كلمة حبيبي، وتشعر أنه سيموت عند ذكر «عيان»، وكنت ألحظ تغيرا في الوجه والإيماءة وانطباع الروح على الملمح، مع سيره في حالة الوجد ومروره على محطات الكلام.
في الشوارع المحيطة بالحي، كانت الأجواء تشتعل وفق إيقاع مغاير، هنا يتحول الوجد الصوفي بهجة وألاعيب حواة، الساحر والأراجوز والألعاب الشعبية، من «النشان» والمدفع والمراجيح، والأخيرة كنت أهيم في حضرتها كما أهيم في حضرة الشيخ، أجدف بها كما يجدف بحار يافع بمركبته، وأقلبها في الهواء مرة إثر مرة، كى أفوز وأتفوق على الأقران.
في هذه الساحة الواسعة من الحياة بألوانها، كان أطفال القرى والنجوع البعيدة، الذين يمثل لهم المولد فسحة في الزمان والمكان والبهجة، يقفون كحراس البوابات، يرصدون أفعالنا وعلى وجوههم تورق الدهشة أشجارا ونخيلا مثقلا بالثمر، كأنهم يشهدون على اختمار المعجزات في جبة قديس أو تحت عمامة نبي، يرقبون أفعالنا ويبتسمون، ويقولون إننا «عفاريت مش عيال»، وكنا بالفعل ملبوسين بطاقة أكبر من طاقتنا العادية، نأتي أفعالا لا تتيسر لنا في عاديات الأيام، ونلعب ألعابا تشبه الكاميرا الخفية الآن، وما اذكره من مواقف هو «السبت الخوص» الذي كنت أختبئ فيه ويغطوننى بملاءة، ثم يقولون للمارة من الريفيين ساعدونا «شيّلونا»، ويمسك الريفي من يد مقابلة لصديقي الصغير، لأقوم زاعقا وضاحكا بقهقة مدوية «هاهاهاهاهاها»، فيجري الرجل مذعورا، ونضحك نحن الصغار كمن حقق انتصارا كبيرا في معركة وجود.
في نهاية الشارع كانت حلقة السمك، بعدها الصاغة وكنيسة الشط، كنت أذهب كثيرا في الأعياد، خاصة أحد الشعانين «حد السعف»، لأشاهد ما يفعله بائع السعف وما يعرضه من مشغولات، عش النمل والعصافير والصلبان، وكثيرا ما كنا نحتفظ بصليب من السعف، نعلقه فرحين به كطفل عائد من الكنيسة بعدما أوقد شمعة على المذبح، ووقتها كنا كتلة طفولة ومحبة، ولا نعي ما يسري من بغضاء في القلوب الآن.
سكني في شارع أوله ميدان سيدي علي الروبي، وآخره الصاغة وكنيسة الشط، لم يكن أمرا غريبا ولا ملفتا، كان مجرد فرصة لقدر أكبر من البهجة، فأن تسكن هذا العالم فأنت محظوظ بفرص عديدة للبهجة في أفراح المساجد والكنائس، في أعياد المسلمين والأقباط على حد السواء، وهذا المد الشعبي الملهم لأي شخص طبيعي، والمكون لوجدان مصري خالص، ومن وقتها حملت علامة حتى الآن، علامة تشبه ندبة في الروح، ولكنها ندبة من نور.
عندما ولدت كنا نسكن فى الدور الثاني، جيراننا في الدور الأول مصريون أقباط، رزقهم الله ولدا أسموه عادل، جارنا في الثالث مسلم وابنه «محمد»، ولما رزق الله والدي بي اشتعلت خناقة لرب السماء، الجاران يريدان الاستحواذ على الوليد الجديد وتأكيد اسم ابنها بطفل جديد يشاركه فيه، ولم يهدأ الأمر حتى تدخل أبي، وكان من رجال الشرطة، مقترحا أن أكون «محمد» في شهادة الميلاد، و«عادل» في الحياة وبين الناس، وفي الشهادة الابتدائية كدت أن أخسر سنة من عمري، حينما كتب والدي استمارة التقدم للامتحان باسم عادل حسني، ليعود الورق مؤشّرا عليه بأنه لا يوجد تلميذ بهذا الاسم، وتداركنا الخطأ.
أذكر أيضا أن أول قصيدة نشرت لي، وكانت في جريدة العمال عند عمنا فؤاد حجاج، نُشرت باسم عادل حسني، وكنت سعيدا بها لدرجة قصّها من الصحيفة والاحتفاظ بها في حافظة نقودي، وكلما أخرجها لزميل أو صديق مباهيا بالقصيدة واسمي، قال إنها قصيدة لعادل حسني، أنت محمد، وظلت المشكلة التي صنعتها المحبة قائمة حتى استقر الرأي أخيرا على تقديمي في الندوات باسم محمد حسني، باقتراح عمي وأستاذي الراحل سيد حجاب، بعدما اتصلت به فى مرة من أوبرج الفيوم، وكنت أعمل فيه مطلع التسعينيات، وقلت لمن رد على الهاتف سائلا عن هويتي «قول له عادل حسني»، فرد عم سيد حجاب «أيوة يا دكتور»، ضحكت وقلت له «يا عم سيد أنا عادل حسني من الفيوم»، ضحك وقال «لازم تصر على إنك محمد حسني خلاص»، قلت له حاضر يا عمنا، وتراجع عادل حسني قليلا لصالح محمد، في الشعر والثقافة فقط، ولكن ظل في الحياة وبين الأهل.
الآن، وأنا أكتب وأتذكر، ويقتحم ذهني مثال اسمي الذي عشت ما يقرب من خمسة عقود أحمله دليلا حيا على المحبة وائتلاف القلوب، لا أعرف حقيقة من وضع سكينه الحاد في عباءة مصر، وبين نسيج شعبها، ففصل الخيوط عن بعضها، وقطع طريق البهجة والألعاب الشعبية والمولد والأراجوز والسعف، الرابط بين مقام سيدي علي الروبي، وكنيسة الشط، بالتأكيد هذا الفاعل السيئ لا يحب المقام ولا السعف، ولا يحب عادل ولا محمد.
السبع دروب
من اسمه يتجلى وصفه وهيئته، هو سبعة دروب متداخلة ببعضها بشكل عجيب، وكأن من أسماها فطن إلى روح المكان وجوهره ورائحته بشكل عجيب، ملخصا هذه المتاهة الحانية التي تفضي إلى سوق «التبن» والصاغة وسوق النافع والقنطرة.
في النافع نجد كل أنواع العطارة والبخور، تتداخل الروائح وتتعانق وتمتزج وكأنها رهط مريدين يعانقون شيخهم في حضرة صوفية، ومهما كان أنفك مدربا وحاسة الشم لديك مرهفة، لن يتأتى لك فك هذا العناق، أشهر العطارين في هذه السوق محمود سعد الدين، لديه ستجد كل شيء، ما تبحث عنه وما لا يخطر لك على بال، عين العفريت وتوابل الأطعمة والشبّة، والأخيرة كانت تُستخدم وهى فى البخور و«الرقوة»، وكم من مرة مرضت وقال الجيران إننى محسود ولا مفر من «رقوتي»، وفي ختام الرقية تُلقى الشبّة على النار فتشتعل وتسيح وتستقر على شكل معين، يكون الحاسد، رجلا أو امرأة، وكانت عملية الرقية المعقدة فنيا وطقسيا تحتاج لمتخصص ماهر، ودائما كنا نستدعي «أم طه»، وهي «كودية زار» شهيرة تسكن معنا المنطقة نفسها، حي الكارة.
مع كل زار لـ«أم طه» كنا نتجمع، لنشاهد النساء يؤدين حركات هستيرية، بينما يدق الرجال الدفوف، ونحن نتلصص من وراء الشباك، لم نكن نفهم طبيعة ما يفعلون أو يقولون، ولكن كان أشد ما يلفت انتباهي وهم يطوحون في الهواء تشكيلة حبوب متداخلة ومختلطة في صينية تحملها إحداهن، تضم الملح مع الفول مع حلوى الفندام، وكنا نسميها «أرواح»، ربما لالتصاقها بطقس الزار وأجواء الأرواح والجن التي تغلفه.
كنت أتعجب من خروج النساء سائرات على أقدامهن، بعدما قدمن فاقدات الوعي من الريف أو أطراف مدينة الفيوم على عربة «كارو» أو في حنطور لو كانت إحداهن من عائلة موسرة، وما إن يشتعل الزار وتمتد طقوسه، حتى تخرج المرأة التي دخلت محمولة على الأيدي والأكتاف، سائرة على قدميها كأن لم يكن فيها شيء.
الآن، وأنا أهز غربال الذاكرة تتساقط مواقف وحكايات وشخصيات، وتتبقى أخرى، كلها أثرت في وعيي وصاغت شخصيتي ومخزوني ورصيدي في هذا العالم، سعدت بالقاسي فيها كما سعدت بالمبهج، وحملت في روحي شيئا من روائحها وتفاصيلها، الناس والشوارع والطقوس والأعياد، ومرت الأيام وتبدلت الأحوال ومررت على أماكن وبيوت وحيوات شتى، ولكن تبقى منطقة الروبي وحي الكارة ومحيط مقام سيدي علي الروبي وكنيسة الشط، قطعة لحم زائدة في القلب، وغرفة وسيعة مضافة للروح وبراحها، إذ شكلت حصة غير هينة من الإنسان الذي يجلس الآن متذكرا وحكاء ومازجا بين الشعر والحكايات، وبفضل عجينتها الخاصة الثرية قلت ما تيسر لي قوله، وفعلت ما مكنتني الحياة من فعله، وصرت شاعرا شعبيا، بمعنى الاندغام في المكان والناس بكل نقائهم وبهائهم العادي.
في كلمة مسجلة أمام منتدى الغرفة التجارية الأمريكية:
في كلمة مسجلة أمام منتدى الغرفة التجارية الأمريكية:مدبولي: نلتزم بالعمل بشكل شامل مع جميع …